د. أسامة الأزهري، العالم الجليل، الرباني، وزير الأوقاف، الذي كان لنا معه هذا الحوار الشامل، عن كل ما يخص الحياة الروحية للمصريين، ومسئوليات وزارة الأوقاف الفترة الماضية؛ وكذلك الخطط المستقبلية للوزارة، التي شهدت في الفترة الوجيزة، منذ أن تولى الوزير، الكثير من النشاط الذي لمسه مرتادو المساجد ومتابعو حلقات الوزير في وسائل الإعلام المتعددة.. ومشروع تخرج “أرض الصالحين” يشكر فضيلة الدكتور: أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، على هذا الحوار الممتع ، الذي أخذ من وقته الثمين.. وإلى تفاصيل الحوار، الذي امتلأ بالكثير من التصريحات التي تهم كل مواطن في “أرض الصالحين”:
• مصر أرض الصالحين … ماذا تعني هذه الكلمات للدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف؟
– مصر أرض الصالحين؛ هذه العبارة ليست مجرد وصف عابر أو شعار تردد الألسن أحرفه؛ بل هي حقيقة راسخة، ومدلول عميق ينبض بالحياة في وجدان كل من عرف قدر هذه الأرض المباركة. إنها الكلمة التي تختزل عبق النبوة، وضياء الوحي، وامتداد الرسالات، وتاريخًا لا ينفصل لحظة عن لحظات التجلي الإلهي والنفحات الربانية.. فما أعظم أن تُذكر مصر في موضع التجلي الأعظم، في لحظة فريدة من لحظات الزمان؛ حيث اصطفى الله تبارك وتعالى نبيّه موسى، عليه السلام، لكلامه في بقعة طاهرة من بقاع سيناء، حين قال عز وجل: “وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ”. إنها ليست مجرد بقعة جغرافية، بل مقام من مقامات القرب الإلهي، أرضٌ شهدت ما لم يشهده غيرها من الأرضين، وجبلٌ تجلى عليه رب العالمين، حتى اندكّ وتهاوى، وسجدت ذراته تعظيمًا وهيبةً.
هذه البقعة، التي احتضنت الميقات والكلام والنداء والتجلي، هي من صميم أرض الكنانة، من سيناء المباركة، ومن قلب مصر الطاهر، ما يجعلنا نقف بخشوعٍ أمام هذه الحقيقة القرآنية: أن هذه الأرض شهدت حضرةً ربانيةً لا مثيل لها، فكانت أرض ميقات، وأرض اصطفاء، وأرض تجلٍّ وهيبة، وأرض طموح في القرب من الله، بل هي أيضًا أرض تسبيح وتوبة وإيمان.
وحين نتدبر هذه الآيات بعين البصيرة، ندرك كيف اصطبغت أرض مصر بطابع القداسة، ونستشعر أن هذه الأرض، التي سار عليها أنبياء الله، هي موئل النور، ومأوى الأمن، وملاذ الرسالات. ألم يقل الله تعالى في شأن نبيه يوسف عليه السلام: “ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ”؟ أليست هي الأرض التي لجأ إليها إبراهيم عليه السلام؟ والتي تربى على أرضها موسى عليه السلام؟ ونشأ فيها المسيح عيسى وأمه البتول بعد رحلة طويلة من أقصى مشرقها إلى قلب صعيدها؟ فهل بعد هذا من شرف ومكانة؟
ومصر لم تكن يومًا غائبة عن الذكر الحكيم، ولا عن السنة المطهرة، بل ورد ذكرها تصريحًا وتلميحًا، تكريمًا وتعظيمًا، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصيته لأصحابه عن أهل مصر: “إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يُذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمةً ورحمًا”. وهل هناك من شعوب الأرض من نال هذا التوقير النبوي وهذا العهد الشريف؟!
وحين يقول العلماء إن “الإدراك يولد المعرفة، والمعرفة تولد الإعجاب، والإعجاب يولد الانتماء”، فإن هذا يصدق تمامًا على علاقتنا بأرض مصر. فمعرفتنا بنصوص القرآن التي رفعت من شأن مصر، ووعيُنا بأحاديث النبي التي خصت أهلها بالوصية، يولد فينا انتماءً لا ينفصم، واعتزازًا لا يضاهيه فخر، وولاءً يتجدد كلما مررنا على موضع آية أو ذكر نبوي.
لقد زرنا هذا الموضع المبارك، جبل التجلي، فشاهدنا الجبل الذي اندكَّ حين تجلى عليه رب العالمين، وتفيأنا ظلال تلك اللحظة النورانية، وعشنا مشهدًا من مشاهد العظمة التي حُفّت بها سيناء، درة تاج هذا الوطن. كيف لا، وهي الأرض التي شهدت عظمة الموقف، وهول المشهد، ودهشة النبوة، وسجود الجبل؟!
مصر ليست فقط وطنًا يسكن الجغرافيا، بل وطنٌ يسكن النص المقدس، وطنٌ تنبض به آيات الذكر، وتحتضنه بشارات النبوة، وتغمره دعوات الأنبياء، وتبكي على ترابه قلوب العارفين، وتخشع عند ذكره الأرواح التي قرأت القرآن بفهم وتدبر. إنها بحق… أرض الصالحين، وأرض الكليم، ومسرى المسيح، ووصية الأمين – هي أرض الإيمان والسلام.
فتح المساجد
• قرار فتح المساجد دون إغلاقها بين الصلوات لاقى من الاستحسان الكثير فما مبرركم لهذا القرار؟
– فتح المساجد دون إغلاقها بين الصلوات لم يكن مجرد قرار إداري، بل هو في جوهره تعبير عملي عن رؤية أوسع تستهدف بناء الوعي الديني الرشيد، وتجسيد سماحة الإسلام في واقع الناس، وتحويل المسجد إلى منارة إشعاع حضاري وروحي وفكري. فالمسجد لم يكن في يوم من الأيام موضعًا تؤدى فيه الصلوات فحسب، بل كان عبر التاريخ النبوي الشريف مركزًا لصناعة الوعي، وبناء الشخصية، وتكوين الإنسان المتوازن المتحضر.. من هنا، فإن قرار فتح المساجد باستمرار بين الصلوات إنما هو دعوة مفتوحة لأبناء المجتمع لعيش حالة من السكينة والأنس بالله، بعيدًا عن صخب الحياة وضجيجها، حيث يجد المصلّي باب المسجد مشرعًا في وجهه، يستقبله بحفاوة ورحمة، لا يرده حاجب، ولا يُقابله باب مغلق، فتتهيأ له الفرصة للتأمل، والتزود بالإيمان، واستعادة التوازن النفسي. هذه الروح هي التي نريد أن نبعثها من جديد في بيوت الله، حتى تكون بحق بيوتًا أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه.
ونحن حين نفتح أبواب المساجد فإننا في الوقت ذاته نفتح أبواب القلوب، ونعيد وصل ما انقطع بين الناس وبيوت الله، ونغرس في الأذهان أن المسجد ليس حيزًا مغلقًا في ساعات معينة، بل هو فضاء متاح لمن أراد الطهر والقرب، وواحة للراحة الإيمانية. وهذا بدوره يعمق ثقافة الارتباط بالمسجد، ويزيد في أثره التربوي والإنساني، ويجعل من وجوده عنصرًا محوريًا في بناء وعي الإنسان المسلم المعاصر.
ولأننا ندرك أن هذا القرار يحتاج إلى وعي موازٍ في السلوك والمعاملة، فإننا نعمل بكل قوة على إعداد وتأهيل جميع العاملين بالمساجد، من خلال حزمة من الدورات التدريبية المكثفة التي تهدف إلى إرساء ثقافة المعاملة الراقية، واستيعاب روح المسجد، والرفق برواده، وتقديم صورة عملية لما يجب أن يكون عليه خادم المسجد من حسن سمت، وجمال خُلق، وانضباط سلوك. وهذا جزء لا يتجزأ من مشروعنا الأكبر لصناعة الوعي، ليس بالكلام النظري، بل بالفعل الميداني، والممارسة العملية.
إننا نؤمن بأن رواد المساجد هم ضيوف الرحمن، وأن حسن استقبالهم واللطف بهم هو في حقيقته عبادة، ومن هنا جاءت توجيهاتنا المتكررة للعاملين بالمساجد بحسن التعامل والرفق، وتهيئة الجو الإيماني والنفسي للمترددين على بيوت الله، حتى لا يشعر أحدٌ بثقلٍ أو مشقة، أو يُقابل بجفاءٍ أو غلظة، فالدين في جوهره رحمة، والمسجد هو المظهر الأجمل لتلك الرحمة.
ولا يقل دور الإمام أهمية عن دور العامل، بل هو ركيزة المشروع التنويري في المسجد، إذ يُناط به الإرشاد، والتوجيه، وتشكيل الوعي، وبث القيم، ومعالجة المشكلات، ومداواة الجراح النفسية، ودعوة الناس للأمل، وربطهم بالقرآن والسنة ربطًا واعيًا مبصرًا. فالإمام ليس مجرد مبلّغ، بل هو حامل أمانة، وصاحب رسالة، وصوت الحكمة في المجتمع.
إن هذا القرار، الذي قد يبدو في ظاهره أمرًا إداريًا، إنما هو في حقيقته إعلان عن مرحلة جديدة من فهمنا لرسالة المسجد، وبداية حقيقية نحو مسجدٍ نابض بالحياة، فاعل في بيئته، مشارك في حلّ مشكلات الناس، شريك في بناء الإنسان، وصانع للوعي. وبهذا نعيد للمسجد دوره الحضاري، ونصنع أجيالًا تنتمي لهذا الدين بجماله لا بجفافه، ولسماحته لا بتشدده، ولروحه لا لشكله.
عودة الكتاتيب
• عودة الكتاتيب قرار اتخذته ويعني الكثير لأهلنا وأطفالنا رغم معارضة البعض فكيف ستتخذ الإجراءات التنفيذية للعودة القوية بهذا القرار؟
– إن قرار عودة الكتاتيب لم يكن خطوة عابرة أو استجابة آنية، بل هو امتداد عميق لرؤية واعية تسعى إلى إعادة الروح التربوية الأصيلة لمجتمعنا، عبر بوابة القرآن الكريم، التي ما إن تفتح أبوابها حتى يتدفق منها النور، وتنبعث من حولها القيم، ويتكون في أحضانها جيل جديد مشبع بالهوية، محصّن بالفهم، منتمٍ لوطنه، ثابت على الحق والخير.
لقد جاءت مبادرة “عودة الكتاتيب” استجابة لحاجة مجتمعية ملحة، وشوق فطري متجدد في قلوب المصريين للرجوع إلى منابع النقاء الأولى، حيث جلسات التحفيظ التي كانت تصقل الوجدان، وتصوغ الشخصية منذ نعومة الأظفار، لا بالحفظ فقط، بل بالأدب الجمّ، والانضباط، والاحترام، والتنشئة على مقاصد الشريعة وأخلاق النبوة، وحب الوطن، وحب الخير للناس، والبذل والعطاء. ولهذا، فقد بدأنا أولى خطوات التنفيذ من الريف المصري، من كفر الشيخ شحاتة في مركز تلا بمحافظة المنوفية، حيث ما تزال ذاكرة الناس تحتفظ بمشاهد الكتاتيب القديمة، فكان ذلك إيذانًا بانطلاق مشروع وطني كبير، يتجاوز التحفيظ التقليدي إلى بناء الإنسان من داخله.
وفي سبيل التنفيذ القوي والفعال لهذا القرار، تم إعداد خطة شاملة لتطوير الكتاتيب، ترتكز على إعادة هيكلتها وتحديث مضمونها، لتكون بيئة تربوية متكاملة، تنسجم مع روح العصر، دون أن تفقد هويتها. وقد حرصت الوزارة على أن تكون هذه الكتاتيب تحت إشراف مباشر من قياداتها الدعوية والعلمية، بما يضمن جودة المخرجات وتكامل الرسالة، ويعيد الثقة إلى هذا النمط التربوي الذي افتقده المجتمع لسنوات.
كما قمنا بتأهيل مجموعة من المحفظين من خريجي الأزهر الشريف، الذين يجمعون بين سلامة التلاوة وفصاحة الأداء، وبين فهم المقاصد وعمق المعاني، ويملكون من المهارات التربوية ما يؤهلهم لتكوين العلاقة السليمة مع الطفل، فيشعر الطفل داخل الكتاب بالأمان، ويألف العلم، ويتذوق حلاوة القرآن في بيئة حانية وجاذبة، بعيدًا عن أساليب التلقين الجاف أو القسوة المنفّرة.
ولأننا نؤمن أن التعليم الحقيقي لا ينفصل عن التزكية، فإننا نحرص على أن يتضمن البرنامج التربوي للكتاتيب تفسيرًا ميسرًا للآيات، يربط بين النص القرآني والواقع المعاش، ويعلّم الطفل كيف تكون أخلاقه مرآةً لآيات ربه، فيُسهم في بناء جيل لا يحفظ القرآن فحسب، بل يتفاعل معه، ويطبّقه، ويجعل من سلوكياته اليومية ترجمة عملية لما تعلمه في الكتاب من صدق ورحمة وعدل وأمانة.
وإدراكًا منا لأهمية التكامل بين المؤسسات، فقد بادرت الوزارة بالتنسيق مع الجهات المعنية في الدولة، من وزارات ومؤسسات مجتمع مدني، لتقديم الدعم الشامل لهذه الكتاتيب، من حيث التغذية المدرسية، والرعاية التربوية، والبيئة التعليمية المريحة، ما يحوّل الكُتّاب إلى مركز خدمات متكامل للطفل المصري، ويعزز من ارتباطه به، ويشعره أن الكتاب ليس فقط مكانًا للتعلم، بل حضنًا تربويًا شاملًا.
أما على المستوى التقني، فنحن مقبلون على دمج الوسائل التعليمية الحديثة في الكتاتيب، باستخدام السبورات الذكية، والعروض التفاعلية، وأساليب العرض والتدريس الحديثة، والأنشطة المصاحبة التي تحفّز الإبداع وتربط بين القرآن ومجالات الحياة، فضلًا عن تنظيم مسابقات دورية تجمع بين الحفظ والفهم، وبين التلاوة والعمل، وتكرّم الفائزين بما يعزز من روح التنافس الإيجابي والانتماء للقرآن.
ولأننا لا نغفل البعد الأسري في التربية، فقد حرصنا على جعل الأسرة جزءًا من العملية التعليمية، من خلال حلقات تواصل بين المحفظين وأولياء الأمور، وتوسيع البرنامج ليشمل الأنشطة الأسرية، بما يرسّخ التكامل بين البيت والمسجد، ويصنع من الطفل محورًا للخير في محيطه، ويجعل من الأسرة بيئة راعية للفكر الوسطي والقيم النبيلة.
هكذا تتجسد عودة الكتاتيب في صورة مشروع وطني متكامل، يُعيد للقرآن مكانته في نفوس أبنائنا، ويمنحهم أدوات الفهم الرشيد، ويُسهم في بناء شخصية قادرة على حمل الرسالة، والتمييز بين الحق والباطل، بين الغلو والاعتدال، بين الفوضى والنظام، فليس القرار مجرد عودة للكتاتيب، بل هو عودة لجذور التربية، ومنبع النور، ومصدر القوة الحضارية لأمتنا.
“هندسة” الخطاب!
• عملك كأستاذ في الجامعة واختلاطك بالقواعد الطلابية له من الأثر الكثير في طريقة تفكير السيد الوزير.. كيف ترون عودة الوعي الديني لطلابنا وما هو الأثر المطلوب من ذلك؟
– إن عملي أستاذًا في الجامعة واحتكاكي اليومي بالقواعد الطلابية منحني نافذة حقيقية على عقول الشباب وقلوبهم، بل وجعلني أقف على مفترق الطرق الذي يقف عليه كل طالب في مقتبل حياته، يتأرجح بين طموحات متدفقة، وتساؤلات مشروعة، وعالم مفتوح لا يعترف بالثوابت إن لم تُقدَّم له بلغة العصر. ومن هنا أدركت أن المعركة الحقيقية ليست في استدعاء النصوص فحسب، بل في قدرتنا على إعادة تقديمها للجيل الجديد بوعي عميق، وروح رحبة، ومنهج علمي قادر على محاورة العقول دون وصاية، واحتضان الأسئلة دون خوف.
لقد لاحظت من خلال محاضراتي ومناقشاتي مع الطلاب أن الأزمة التي يعيشها بعض شبابنا ليست أزمة تدين، فهم في الغالب عطشى للمعنى، متطلعون للفهم، وإنما هي أزمة “لغة الخطاب” الذي يخاطبهم، ومضمون الرسالة التي تصل إليهم. من هنا، بات لزامًا علينا أن نعيد هندسة الخطاب الديني الموجه للطلاب ليكون صادقًا في طرحه، بسيطًا في لغته، عميقًا في مضمونه، يجيب عن أسئلتهم لا أن يضيف إليها حواجز جديدة، ويخاطبهم من داخل قلوبهم لا من فوق المنابر فحسب.
إنني أؤمن بأن الجامعة ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل هي إحدى أهم محاضن الوعي، وبأن الأستاذ الجامعي ليس ناقلًا للمعلومة بقدر ما هو باني وعي، وصانع أمل، وقائد فكر. ومن هذا المنطلق، فإن دوري لا يتوقف عند حدود المقرر الدراسي، وإنما يمتد إلى تبني مشروع متكامل لعودة الوعي الديني والفكري إلى طلابنا، عبر حلقات نقاش مفتوحة، وندوات حوارية حرة، وجلسات تربوية تفتح المجال أمام الطالب ليعبّر عمّا في داخله، دون خوف أو تردد.
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى بناء وعي ديني جديد، لا يتقاطع مع روح الدين، بل يستلهم منها منهج الفهم الرشيد، والرحمة الواسعة، والتمييز بين الثابت والمتغير، بين الأصل والفرع، بين المقدس والبشري. وطلاب الجامعة هم اللبنة الأولى في هذا البناء، لأنهم سيغدون غدًا أطباء ومهندسين ومفكرين وإعلاميين ومعلمين، وكل واحد منهم سيكون مرآة لما حمله من وعي أو ما فرّط فيه من فهم.
ومن خلال منصبي في وزارة الأوقاف، أحرص على أن تظل الجامعة مصدرًا حيويًا لتغذية خطط الوزارة بالكوادر الشابة الواعية، عبر التعاون مع المراكز الثقافية الإسلامية، وإشراك الطلاب في المبادرات الفكرية، وتوفير منصات إلكترونية تتواصل معهم بلغتهم وتستوعبهم في بيئتهم، إلى جانب التوسع في تدريب الأئمة الشباب على التعامل مع طلاب الجامعات بلغة عقلية وعاطفية متوازنة.
إن المطلوب في هذه المرحلة أن ننتقل من مرحلة “نقل المعرفة” إلى مرحلة “تكوين الوعي”، ومن الاكتفاء بالمحاضرة إلى الحوار، ومن الخطاب العمودي إلى التواصل الأفقي الذي يصنع من الطالب شريكًا في تشكيل الوعي لا مجرد متلقٍ له. فالوعي الديني الذي نريده ليس مقصورًا على العبادات والشعائر، بل هو وعي شامل بالحياة، والواقع، ومسئولية الإنسان تجاه ذاته ومجتمعه ووطنه.
وهكذا، فإن عملي الجامعي ليس عبئًا على مهامي الدعوية، بل هو في الحقيقة الجسر الذي عبرتُ عليه لأصل إلى أعماق الجيل الجديد، أسمعه كما يسمعني، وأحاوره كما يحاورني، فأبني معه لا له، وأغرس فيه بذور الوعي الصحيح الذي يعصمه من التطرف والسطحية، ويقوده إلى أن يكون عنصر بناء وإصلاح وضياء في زمن أحوج ما يكون إلى الشموس لا إلى الظلال.
السياحة الدينية
• الأصوات تنادي بالاهتمام بالسياحة الدينية في مصر لما لها من أصول، ومزارات تفوق كل دول العالم.. فهل لسيادتكم دور في تنمية تلك السياحة والعودة بمصر كواجهة لمسلمي العالم؟
– إن السياحة الدينية تمثل أحد أهم المفاتيح الحضارية التي تمتلكها مصر، فهي لا تُعد مجرد نشاط اقتصادي أو ترفيهي، بل هي في جوهرها جسر للتواصل الروحي والثقافي، يربط الماضي بالحاضر، ويجعل من أرض مصر منارة تهدي الأرواح قبل أن تُمتع الأبصار. وفي هذا الإطار، فإن دورنا تجاه تنمية هذا النوع من السياحة يتجاوز حدود التخطيط التقليدي إلى استشراف الأثر الحضاري والديني العميق الذي يمكن أن يتحقق إذا ما وُضع لهذه الوجهة القدر الذي تستحقه.
لقد أنعم الله على مصر بأن جعلها مهدًا من مهود النور، حاضنة لمساجد ومزارات آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ومواقع شهدت مرور أنبياء ومرور رسالات. ومن هذا الرصيد التاريخي الإيماني تنبع أهمية إعادة تقديم هذه الأماكن المقدسة للعالم الإسلامي، ليس فقط كمواقع أثرية، بل كمساحات إيمانية نابضة بالحياة، تُعانق فيها الأرواح عبق السيرة، ويتجدد فيها المعنى والارتباط بسيرة آل البيت الكرام، من خلال زيارة مقامات السيدة زينب، والسيدة نفيسة، والسيد الحسين، والسيدة سكينة، وغيرهم من رموز الطهر والنقاء الذين يجاورون نيل مصر وأهلها.
وقد أدركت الدولة المصرية بقيادتها السياسية الرشيدة هذه القيمة الفريدة، فانطلقت عبر رؤية شاملة لإحياء القاهرة التاريخية، تبدأ من ترميم المساجد والمقامات، ولا تنتهي عند إعادة توظيفها كمحاضن للهوية، ومنارات للعلم، ومراكز للإشعاع الثقافي والديني. وهذا الترميم ليس مجرد تجديد للحجر، بل هو تجديد للذاكرة الجمعية، وإحياء لمعالم من نور، هي جزء أصيل من وجدان المصريين والمسلمين جميعًا.
ولأن السياحة الدينية هي إحدى بوابات القوة الناعمة لمصر، فإننا من موقعنا في وزارة الأوقاف نعمل على تنسيق الجهود مع الجهات المختصة، وخاصة وزارة السياحة والآثار، لتضمين هذه المزارات في المسارات السياحية الرسمية، وتقديمها بروح العصر دون أن نفقد عبق الماضي. وذلك من خلال إرشادات علمية مصحوبة بمحتوى تثقيفي وروحي، يبرز سماحة الإسلام، ويرسخ صورة مصر كواحة للسلام، وبلد الأزهر الشريف، ومأوى آل البيت.
إنني أؤمن بأن مصر تستطيع أن تكون الوجهة الرئيسة حول العالم في السياحة الدينية، ليس فقط بسبب ما تمتلكه من مقامات ومساجد وآثار، ولا ما تحويه من آثار دينية الصبغة منذ القدم وعلى مر العصور، ولكن لما تمثله من عمق روحي، وحضارة وسطية، تعلي من قيمة الإنسان، وتمنحه نموذجًا للعيش في سلام مع الله ومع الناس. ولقد بات من الضروري أن نقدم للعالم هذه الصورة المتكاملة، التي تجمع بين جمال المكان، ونقاء الرسالة، وعظمة التاريخ.
وتتجلى روح هذه المزارات في كونها ليست مجرد نقاط على خريطة، بل هي مواطن للسكينة، ومرافئ للباحثين عن اليقين، يتجه إليها كل من أتعبه الضجيج، وكل من ضلّ طريقه في زحام الأفكار، ليجد في حضرة آل البيت ما يعيد إليه التوازن، ويمنحه طاقة من الصفاء لا تُقاس بثمن. فهذه المساجد ليست فقط محاريب صلاة، بل هي مدارس أخلاق، وجسور تواصل حضاري بين الشعوب.
ومن هذا المنطلق، فإن دورنا في تنمية السياحة الدينية لا يقتصر على الترميم والتجميل، بل يمتد إلى إعادة تنشيط المعاني التي تمثلها هذه الأماكن، وتكثيف الجهود لربط الشباب المصري بهذه الرموز، ليعلم أن مصر ليست فقط مهد الحضارة الفرعونية، بل هي أيضًا أرض الأنوار المحمدية، ومسكن الكرام من آل البيت، الذين أحبهم المصريون فرفعوا لهم القباب، وتناقلوا سِيَرهم، ونسجوا من حبهم أنشودة متوارثة تعيش في ضمير الزمان.
وهنا تأتي أهمية توجيه الشباب ليدركوا أن هذه المعالم ليست فقط واجهات سياحية، بل هي جزء من هويتهم الحضارية، وأن الحفاظ عليها، والترويج لها، والمشاركة في بعث رسالتها، هو في جوهره حماية للوعي، وبناء للانتماء، وتفعيل لرسالة مصر الروحية في عالم يعاني من التشظي والاضطراب. ومن خلال برامج التوعية والأنشطة الثقافية التي تُنظَّم في هذه المساجد، نستطيع أن نربط الماضي بالحاضر، ونبني الوعي الديني على أساس من المحبة والعقل والتوازن.
إن السياحة الدينية حين تُفهم على هذا النحو، تصبح من أقوى أدوات الاستقرار المجتمعي، ومن أمتن جسور القوة الناعمة، حيث يلتقي فيها التاريخ بالإيمان، وتلتقي فيها الأمة المصرية بقلوب المسلمين جميعًا. وهذا ما نسعى إليه بكل عزم، أن تظل مصر بوابة النور، وعاصمة الروح، وموطنًا مفتوح القلب لكل من قصدها طالبًا للسكينة أو عاشقًا للتاريخ أو مستنيرًا بسير العظماء.
إحياء التراث
• أيادي الإهمال طالت العديد من الآثار الإسلامية، فهل هناك خطط لترميم ما نسيناه منها وإعادة الصورة المشرقة لها كما حدث في بعض المشروعات مثل تطوير مساجد آل البيت وشارع المعز؟
– تحرص الدولة المصرية في السنوات الأخيرة على إعادة إحياء تراثها الإسلامي العريق، ليس فقط من خلال أقوال وشعارات، وإنما عبر خطوات عملية ومشروعات متكاملة تجسِّد الاهتمام العميق بالهوية الحضارية والدينية لمصر، وتعيد للمساجد والمزارات الإسلامية هيبتها ومكانتها. لقد باتت القاهرة التاريخية- تلك المدينة التي تحتضن بين أزقتها عبق العصور وعبير الأزمان- في قلب هذا المشروع الوطني الطموح الذي يسعى إلى إنقاذ ما عبثت به يد الإهمال، وإعادة رسم الصورة المشرقة التي طالما ارتبطت باسم مصر في الوجدان الإسلامي والعالمي. ومن أروع النماذج على هذا التوجه الحضاري ما شهده مسجد السيدة نفيسة- رضي الله عنها- من أعمال ترميم وتطوير شاملة، افتتحها فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي في مشهد تاريخي يعبّر عن مدى التقدير الرسمي لقيمة هذه المساجد، ليس فقط بوصفها دورًا للعبادة، وإنما بوصفها ملامح راسخة من هوية الأمة. وقد شاركت المؤسسة الدينية بكامل هيئتها في هذا الافتتاح- الأزهر الشريف ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف والسادة الأشراف ومشيخة الطرق الصوفية- في دلالة رمزية بديعة على وحدة الصف الديني والتفافه حول مشروع وطني جامع، يعيد للمقدسات الإسلامية بهاءها وجمالها.
وقد جاءت عملية الترميم على مراحل متعددة، جمعت بين الدقة المعمارية والروحانية التاريخية، فتم تطوير البنية التحتية للمسجد، وتجديد مرافقه، ومعالجة أسقفه وجدرانه، واستبدال الأرضيات والأبواب والنوافذ، كما أعيد ترميم الزخارف والأحجار والمقصورة الرئيسة للضريح، بما يحافظ على الطابع الإسلامي الأصيل، ويقدِّم للمصلين والزائرين تجربة روحانية متكاملة.
لكن الدولة لم تكتفِ بتطوير المسجد من الداخل، بل امتدت يد التطوير إلى محيطه، فشملت أعمال إعادة تأهيل شارع الأشراف الذي يربط بين مساجد آل البيت، في خطوة تهدف إلى تحويل هذه المسارات إلى متحف مفتوح نابض بالحياة، شبيه بما تم في شارع المعز لدين الله الفاطمي، حيث تتناغم روحانية المكان مع إبداع التصميم وجماليات العرض الحضاري، ما يضفي على الزائر تجربة لا تُنسى، تجمع بين عبق الماضي ورؤية الحاضر.
ويستمد هذا المشروع زخمه من خطة متكاملة لإعادة تأهيل القاهرة الإسلامية، باعتبارها مدينة تمتلك أحد أكبر وأغنى التجمعات الأثرية الإسلامية في العالم. وهو ما يدفع الدولة إلى مواصلة مشروعات الترميم في مساجد أخرى مثل مسجد السيدة زينب، والسيدة عائشة، والإمام الحسين، في إطار منظومة متكاملة تُعيد رسم المشهد الروحي والتاريخي للعاصمة، وتعزز من فرص السياحة الدينية والثقافية.
واللافت في هذا المشروع أن الدولة لم تُلقِ العبء كاملًا على المؤسسات الرسمية، بل فتحت الباب أيضًا أمام المبادرات الدولية والمجتمعية، حيث ساهمت مؤسسات عديدة- منها طائفة البهرة- في ترميم بعض المقامات، بإشراف مباشر من الجهات المعنية، بما يعكس روح التعاون الحضاري، ويؤكد أن تراث مصر الإسلامي هو تراث إنساني عالمي يستحق الدعم والرعاية من كل من يقدِّر قيمته.
وهكذا، لا تبدو هذه الجهود مجرد تطوير عمراني، بل هي رسالة حضارية تؤكد أن مصر، التي احتضنت على مر العصور مآذن التاريخ ومشاعل النور، قادرة على استعادة دورها المركزي كمنارة للثقافة الإسلامية ومقصد روحي للزائرين من مختلف أنحاء العالم. فهي لا تنظر إلى ماضيها على أنه صفحة من التاريخ فقط، بل ترى فيه مستقبلًا حيًّا يُعاد بعثه في صورة معمار، وثقافة، وسياحة، ووعي وطني متجدد.
وفي كل حجر يُعاد إليه رونقه، وكل مسجد يستعيد صوته، وكل مئذنة تُضاء من جديد، تقول مصر للعالم: هذه هويتي، وهذا جانب من تاريخي، وهذه رسالتي. وإننا ماضون في طريقنا لإحياء هذا المجد، بكل ما يليق به من عناية وتقدير، حتى تعود القاهرة التاريخية كما كانت دائمًا: قلبًا نابضًا للإسلام، ومركزًا مشعًّا للحضارة، ومصدر إلهام للأجيال.
إذاعة القرآن
• الدور الذي تقوم به إذاعة القرآن الكريم يحتاج إلى نظرة من سيادتكم وخاصة البرامج التي تخاطب الشباب؟
– تمثل إذاعة القرآن الكريم إحدى المنارات الإعلامية المضيئة في سماء العالم العربي والإسلامي، وهي تحمل على عاتقها رسالة سامية منذ نشأتها، تلك الرسالة التي تجمع بين حفظ كتاب الله عز وجل، وترسيخ مبادئه، ونشر القيم الإسلامية الوسطية في نفوس المستمعين، كبارًا وصغارًا، من خلال صوت الإيمان الذي يسري في الآذان صباح مساء. ولا ريب أن لهذه الإذاعة أثرًا بالغًا في وجدان الشعب المصري خاصة، وفي نفوس المسلمين عمومًا، فقد كانت منذ عقود حافظة للأصالة، وراعية للتراث الديني، وحائط صد ضد مظاهر الغلو والانحراف.
ويكفي أن نعلم أن آلافًا من البيوت المصرية قد تربّت على صوت إذاعة القرآن الكريم، فكانت رفيق الفجر، وصديقة السكينة، وموئل الطمأنينة، إذ أطلقت المذياع في ساعة السحر، فانساب صوت المقرئ بآيات بينات تُنزل السكينة على القلوب، وتربط النفوس بكلام الله عز وجل، لتبدأ معها النفوس يومها بمعاني الرحمة والرضا. ولم تكن الإذاعة مجرد بث للقرآن، بل امتدت رسالتها إلى باقة متميزة من البرامج التي تنوعت بين الفقه، والتفسير، والسيرة، والتاريخ، والتربية، والمجتمع، لتكوّن بذلك موسوعة معرفية متكاملة تغذي العقل والوجدان.
لكن ومع عظم هذه الرسالة، فإننا نعيش اليوم في سياق متغير، حيث تتسارع الأحداث وتتشكل عقول الأجيال الجديدة في بيئات رقمية، وتتشابك الأفكار بفعل انفتاح غير مسبوق على منصات التواصل والمحتوى العالمي، وهو ما يستدعي وقفة تأمل وتطوير. فالشباب اليوم، وهو المستهدف الأكبر في معركة الهوية والانتماء، لم يعد يتلقى المعرفة بالطريقة التي كانت سائدة قبل عشرين أو ثلاثين عامًا، بل أصبح يبحث عن التفاعل، ويريد أن يشعر أن لغته مفهومة، وأن قضاياه حاضرة، وأن برامجه الموجهة لا تخاطبه من برج عاجي، بل من أرض الواقع، ومن قلب انشغالاته الحياتية.
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الملحّة إلى تطوير محتوى بعض البرامج داخل إذاعة القرآن الكريم، لا من باب الانتقاص من جهدٍ مشكور، ولا من باب المزايدة على دورٍ راسخ، وإنما من باب الوفاء لرسالة عظيمة تتطلب التجدد والاستمرارية. فالحفاظ على الثوابت لا يعني الجمود، والتمسك بالتراث لا يقتضي تجاهل أدوات العصر. إننا حين نُثمن هذا الدور الكبير، فإننا ندعو في الوقت ذاته إلى ضخ روح جديدة في بعض البرامج، خاصة تلك التي تُوجّه إلى فئة الشباب، حتى تواكب متغيراتهم الفكرية، وتناقش قضاياهم بلغة قريبة، وأسلوب جذاب، وتفاعل حي مع الواقع.
ولعل من صور هذا التجديد أن نفتح المجال في البرامج للشباب أنفسهم، نسمع أصواتهم، نناقش أسئلتهم، نطرح معهم إشكالاتهم، ونقدم لهم ضيوفًا من الدعاة والمفكرين الذين يفهمون لغتهم، ويشاركونهم همومهم، ويمزجون بين العلم الشرعي والرؤية الواقعية. كما يمكن أن تسهم هذه الإذاعة العريقة في إنتاج برامج جديدة تُبث أيضًا عبر المنصات الرقمية، وتتناول موضوعات مثل: الهوية، والانتماء، والتحديات الأخلاقية، والإلحاد، والإسلام في العصر الحديث، بلغة تحاكي أسلوب الشباب دون أن تتنازل عن مضمونها الجاد ورسالتها الرصينة.
إن إذاعة القرآن الكريم ليست في حاجة إلى أن تغير وجهتها، فهي تمضي في طريق سليم، لكنّها تحتاج أن توسّع دروبها، وتفتح نوافذ جديدة تتسع للشباب، وتمنحهم مساحة في هذا الفضاء الإيماني الجميل. نحن لا نطالب بتغيير الرسالة، بل بتطوير الوسيلة، ولا نبحث عن الاستعراض الإعلامي، بل عن تجديدٍ واعٍ يجعل هذه الإذاعة قادرة على الاستمرار في أداء دورها المحوري لعقود قادمة، بقوة أكبر، وانتشار أوسع، وتأثير أعمق.
ويبقى اليقين أن مصر، التي أنجبت أصواتًا خالدة في سماء التلاوة والتفسير والدعوة، قادرة على أن تُنبت من رحم هذه الإذاعة المباركة صوتًا جديدًا يتحدث باسم الجيل الجديد، ويكون امتدادًا لتلك الرسالة، لا قطيعة معها، حاملًا لراية القرآن لا على الأثير وحده، بل في قلوب الناس، وسلوكهم، وواقعهم اليومي. وإذا كانت إذاعة القرآن الكريم قد بدأت بمشروعات الرواد، فإن مستقبلها يُبنى بأيدي المجددين الذين يؤمنون أن الكلمة الطيبة لا تفقد بريقها، ولكنها تحتاج بين الحين والآخر إلى نبرة جديدة تعيد لها ألقها في قلوب العابرين.
حملات التوعية
• هل للوزارة دور في حملات التوعية لشبابنا في الجامعات؟
– نعم، إن لوزارة الأوقاف دورًا كبيرًا ومحوريًا في حملات التوعية الموجهة لشباب الجامعات، إذ تُدرك الوزارة تمامًا أن شباب اليوم هم بناة الغد، وأن الجامعات تمثل البيئة الحاضنة للعقول الناضجة، والأفكار المتوهجة، والمواهب المتطلعة إلى مستقبل أفضل. ومن هذا الإدراك العميق، انطلقت الوزارة إلى الجامعات ليس بوصفها جهة وعظية تقليدية، وإنما باعتبارها شريكًا وطنيًّا في بناء وعي هذا الجيل وتحصينه ضد محاولات التشكيك والانجراف الفكري والانغلاق العقائدي.
وقد عملت الوزارة على تنفيذ منظومة متكاملة من حملات التوعية الفكرية والدينية والثقافية داخل الجامعات المصرية، مرتكزة على خطاب وسطي عقلاني، يواجه الفكر بالفكر، ويخاطب العقول بلغة راقية تجمع بين الأصالة والمعاصرة. ولم تكتفِ بإرسال المحاضرات أو الندوات، بل حرصت على إقامة جسور حقيقية من التواصل المباشر مع الطلاب، عبر مبادرات مستمرة، ومشاركات فاعلة، ونقاشات حية تناقش القضايا التي تشغلهم، وتفتح أمامهم أبواب الفهم العميق للدين بعيدًا عن الغلو والتشدد أو التسيب والانفلات.
ومن أبرز ما يميز هذا الدور، أن الوزارة لم تنظر إلى الجامعات كجزر منفصلة، بل تعاملت معها كجزء من النسيج الوطني العام، فكانت المبادرات التي أطلقتها بالتعاون مع الجامعات امتدادًا طبيعيًا لمشروعها الأوسع في بناء الإنسان المصري، وتحصين الشباب ضد الشائعات، وتعزيز فهم صحيح للدين في ضوء التحديات الفكرية المعاصرة، ورفع درجة الوعي المجتمعي بالمفاهيم الدينية والوطنية والإنسانية.
وقد شارك في هذه المبادرات نخبة من كبار علماء الوزارة، من خلال ندوات فكرية وثقافية عقدت في كبرى الجامعات، بحضور آلاف من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، لأن الوزارة تؤمن أن شباب اليوم يستحقون أن يُسمع لهم كما يُسمع منهم، وأن الحوار هو السبيل الأمثل لترسيخ القيم وتهذيب الوجدان.
كما لم تغفل الوزارة عن أهمية استخدام الوسائط الحديثة، فحرصت على نشر المواد التوعوية والرسائل الفكرية من خلال المنصات الرقمية التابعة لها، وصفحات التواصل الاجتماعي، لتصل إلى الشباب بلغتهم وأدواتهم، وتجذبهم بأسلوب معاصر دون أن تُفرّط في الثوابت أو تتنازل عن المضمون القيمي. وهذا المزج بين الحضور الميداني والرقمي شكّل نقلة نوعية في منهجية التوعية التي تتبعها الوزارة، لتصبح أقرب إلى عقول الشباب، وأكثر قدرة على التأثير فيهم وسط هذا الزخم المعلوماتي الذي يعيشونه.
ولا شك أن هذه الجهود المتواصلة تعكس إيمان الوزارة بأن حماية الوعي ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وطنية وأخلاقية، وأن الجامعات يجب ألا تكون مجرد ساحات لتلقّي المعلومات الأكاديمية، بل منصات لصناعة الشخصية الواعية، والهوية المتوازنة، والانتماء العميق لهذا الوطن. ومن هنا، فإن وزارة الأوقاف تنطلق في حملاتها التوعوية على أرضية راسخة من الفهم والاستيعاب لحاجات المرحلة، وتعمل بكل جهد لتكون شريكًا فاعلًا في بناء الجيل الذي نحلم به: جيل يعرف دينه جيدًا، ويحب وطنه بصدق، ويفكر بعقل ناضج، ويقاوم دعاوى التيه والانغلاق والتطرف بشجاعة ووعي وثقة.
فرصة ذهبية
• كانت الاجازات الصيفية فرصة للعديد من المعسكرات التوعوية للشباب … فهل لنا أن نطالب بأن يكون للوزارة دور فيها؟
– نعم، بل إن وزارة الأوقاف كانت وما تزال في مقدمة الجهات التي أدركت أهمية الإجازة الصيفية بوصفها فرصة ذهبية لتشكيل الوعي، وتحصين الفكر، وتوجيه الطاقات الشبابية نحو البناء والإيجابية. ومن ثمّ لم تغب الوزارة لحظة عن ساحة العمل التوعوي خلال العطلات الصيفية، بل بادرت من خلال ذراعها الفكري المتمثل في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، إلى إطلاق منظومة متكاملة من المعسكرات الصيفية التثقيفية، وعلى رأسها معسكر أبو بكر الصديق بالعصافرة بمحافظة الإسكندرية، ذلك الصرح التوعوي العملاق الذي صار قبلةً لفكر الشباب الواعد ومقصدًا لمن يبحث عن التوازن بين الدين والدنيا والانفتاح على العصر.
لقد تحوّل هذا المعسكر الدائم إلى منارة تنويرية تحتضن طلاب الجامعات والشباب الموفدين من أبناء جامعة الأزهر الشريف، وغيرهم من المنتسبين إلى مراكز التعليم والمعرفة، في أجواء تربوية راقية تجمع بين التكوين العلمي والأنشطة الثقافية، وبين اللقاءات الفكرية المفتوحة وحلقات النقاش التي تستمع إلى الشباب وتحاورهم، وتمنحهم مساحةً للتعبير عن رؤاهم وتطلعاتهم، في مناخ من الثقة والاحترام المتبادل.
ولا يقف الأمر عند الجانب الديني المجرد، بل تمتد برامج المعسكرات لتشمل موضوعات في الوطنية، والانتماء، وتحديات العصر، ومهارات التفكير النقدي، والتواصل الفعال، كما تُطرح قضايا الإنسان المعاصر في ضوء الإسلام الصحيح، من غير غلو ولا تفريط، بل بفهم متوازن يخاطب العقل والوجدان معًا، ويُرسّخ في وجدان الشباب أن الدين لا ينفصل عن الواقع، بل يرشده ويهذّبه ويمنحه بعدًا أخلاقيًا يضيء له الطريق.
وتُعقد داخل معسكر أبي بكر الصديق لقاءات موسعة يحاضر فيها نخبة من كبار العلماء والمفكرين والمتخصصين، يتناولون فيها أحدث القضايا وأكثرها إلحاحًا، كالإلحاد، والتطرف، والتكفير، والإرهاب الإلكتروني، إلى جانب الموضوعات المرتبطة ببناء الدولة الحديثة، وتعزيز ثقافة الحوار، والتعايش السلمي، وقبول الآخر، وكلها موضوعات تمس جوهر تكوين الشاب المصري في زمن تتزاحم فيه الأفكار والتيارات والمغريات.
ويتميز هذا المعسكر بما يُقدّمه من تدريب عملي على إدارة النقاش، وصياغة الأفكار، والقدرة على العرض والحوار المنضبط، ما يخلق جيلًا قادرًا لا على الحفظ والترديد فقط، بل على الإقناع والتأثير، والمبادرة والفعل، في ساحة المجتمع الأوسع. وتأتي أهمية هذا التدريب النوعي في ظل التحديات التي يعيشها الشباب اليوم، من تسارع في المعلومة، وضغوط فكرية وثقافية، تتطلب أن يُزوّد الشاب بأدوات العصر، وأن يُحصّن بالمعرفة والوعي والثقة بالنفس.
وما يضاعف من قيمة هذه المعسكرات الصيفية، أنها لا تقف عند حدود التأهيل النظري، بل تسعى إلى بناء الشخصية من جوانبها كافة، فتهتم بالصحة النفسية واللياقة البدنية والأنشطة الترفيهية الهادفة، وتُشرك الشباب في زيارات ميدانية لمعالم مصر التاريخية، ما يُعزز ارتباطهم بوطنهم، ويعمّق انتماءهم له، ويجعلهم أكثر فهمًا لعظمة حضارتهم، وأشد استعدادًا للمشاركة في مستقبلها.
وهكذا، يمكن القول إن وزارة الأوقاف لم تنتظر أن يُطلب منها دور في الإجازات الصيفية، بل كانت حاضرة بالفعل، مبادرة بالفعل، مدركة لقيمة هذه المرحلة من عمر الشباب، ساعية لتقديم نموذج تنويري متكامل يليق بشباب مصر ويُلبّي طموح الوطن، ويسهم بفاعلية في صياغة عقل جديد، وفكر مستنير، وإنسان متوازن، في زمن يحتاج فيه الجميع إلى هذا النوع من البناء العميق الجاد.
وانطلاقًا من هذا الدور المتجدد، سيكون هناك منطلق كبير خلال الإجازة الصيفية القادمة لتكثيف الأنشطة وتعظيم الاستفادة من طاقات الشباب، حيث تُعِد الوزارة، من خلال المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، خطة موسعة تشمل مضاعفة عدد المعسكرات، وتوسيع قاعدة المشاركة لتشمل شرائح جديدة من طلبة الجامعات والمعاهد، وتقديم برامج أكثر تنوعًا وعمقًا، تستهدف بناء الإنسان المصري علميًا وثقافيًا وأخلاقيًا، مع الحفاظ على الهوية الدينية والوطنية. إننا أمام صيف قادم يحمل في طياته رسالة أمل متجددة، تبعثها الوزارة في نفوس شبابنا، وترسم بها طريقًا نحو وعي أكثر نضجًا، ووطن أكثر استقرارًا، ومستقبل أكثر إشراقًا.
تطوير الخطاب
• الخطبة الموحدة والأذان الموحد.. هل لا يزال فكر السيد الوزير مرتبطًا بهما؟
– نحن في وزارة الأوقاف ملتزمون بالعمل على تطوير الخطاب الديني بما يواكب متغيرات الواقع وتحديات العصر، ونسعى دائمًا إلى تقديم رؤية جديدة تتفاعل مع احتياجات المجتمع، وتحقق التوازن بين الثوابت الدينية ومتطلبات الواقع المعاصر. وفي هذا الإطار، نعمل على محورين رئيسين خلال الفترة المقبلة، أولًا: تطوير خطبة الجمعة وفق رؤية جديدة، فقد حرصنا على إعادة هيكلة خطبة الجمعة بحيث تكون أكثر تأثيرًا وفاعلية، وذلك استنادًا إلى دراسات ميدانية دقيقة بالتعاون مع المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، لرصد القضايا الملحّة التي تحتاج إلى معالجة دينية عميقة، ومن خلال تحليل الواقع المصري، وجدنا أن التحديات القيمية تختلف من محافظة إلى أخرى، فكان من الضروري إيجاد آلية تضمن تحقيق وحدة الخطاب من ناحية، والتفاعل مع خصوصية كل منطقة من ناحية أخرى.
وبناءً على ذلك، قررنا أن تتكون خطبة الجمعة من شقين أساسيين: الخطبة الأولى: موحّدة في جميع أنحاء الجمهورية، تعالج موضوعًا دينيًا عامًّا يمس القيم الإسلامية الأساسية، ويهدف إلى بناء وعي متكامل لدى أبناء المجتمع جميعًا، والخطبة الثانية: يتم تخصيصها وفق طبيعة التحديات في كل محافظة، بحيث تخاطب القضايا المحلية التي تمس حياة المواطنين مباشرةً، كالتوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية، وحقوق المرأة في الميراث، والتحديات التي تواجه الصيادين، وغيرها من القضايا الاجتماعية والاقتصادية.
وقد بدأت الوزارة في تطبيق هذا النموذج اعتبارًا من ٣ من يناير ٢٠٢٥، فكان موضوع الخطبة الأولى هو “فما ظنكم برب العالمين؟ (صناعة الأمل)”، بهدف غرس التفاؤل في نفوس المواطنين وتعزيز الإيمان بحكمة الله ورحمته، بينما تم تخصيص الخطبة الثانية لمعالجة قضايا متنوعة وفقًا لاحتياجات كل محافظة، بحيث تخاطب واقع الناس بشكل مباشر وفعال.
ثانيًا: وفيما يتعلق بمشروع الأذان الموحد، فهو يمثل أحد المشروعات الرائدة التي تهدف إلى الحفاظ على هيبة الأذان وتحقيق الانضباط في المساجد، ومنع العشوائية التي قد تؤثر في جلال هذه الشعيرة الإسلامية العظيمة، وقد قطعنا أشواطًا كبيرة في تنفيذ هذا المشروع، حيث بدأ بالفعل تطبيقه في عدد من المحافظات الرئيسة، ونعمل حاليًا على استكماله ليشمل جميع مساجد الجمهورية تدريجيًّا.
ويعتمد مشروع الأذان الموحد على بث الأذان بصوت مميز واحد في كل محافظة عبر تقنيات حديثة، تضمن وصوله بشكل واضح ومتزامن إلى جميع المساجد، بما يعزز روح الوحدة والتلاحم بين المسلمين، ويحافظ على الجماليات الصوتية للأذان.
ونؤكد أننا مستمرون في العمل على تطوير جميع أنشطة الوزارة بما يخدم مصالح المجتمع، ويرتقي بالمنظومة الدينية في مصر، بما يتوافق مع توجهات الدولة في بناء وعي مستنير، يرسخ قيم الاعتدال والتسامح، ويحافظ على الهوية الدينية في إطار عصري ومتطور.