يقع جامع عمرو بن العاص بمدينة الفسطاط بميدان عمرو بن العاص في حي مصر القديمة؛ كما يُعد أول جامع بُني بمصر بعدما فتحها عمرو بن العاص 20 هـ؛ وقد عُرف بعدة أسماء، منها: الجامع العتيق، وتاج الجوامع، حتى استقر على اسمه الحالي.
في البداية، كانت المواد المستخدمة في البناء بسيطة للغاية؛ تم بناء المسجد من الطين والخشب؛ حيث كانت تلك المواد المتاحة في تلك الفترة؛ ويقال إن عمرو بن العاص قد استعان بأيدٍ عاملةٍ من الجنود المسلمين في بناء المسجد، وكان يتعاون معهم في العمل.
كان المسجد في البداية بسيطًا جدًّا، عبارة عن مكان مفتوح للصلاة يتسع لعدد من المسلمين. لم يكن هناك الكثير من الزخارف أو المرافق، وكان يقتصر على الأعمدة الخشبية وسقف بسيط.
مركز للحكم
عند إنشائه كان الجامع بمثابة مركز للحكم والدعوة للدين الإسلامي لمصر؛ ومن ثم بُنيت حوله مدينة الفسطاط؛ ويتميز مسجد عمرو بن العاص بطرازه المعماري البسيط والروحاني؛ حيث يحتفظ ببعض ملامح العمارة الإسلامية المبكرة ويتكون الجامع من صحن أوسط مكشوف تُحيط به 4 أروقة ذات أسقف خشبية بسيطة، وأكبر هذه الأورقة هو رواق القبلة؛ ويتواجد به محرابان مجوفان يجاور كل منهما منبر خشبي؛ كما توجد بجدار القبلة لوحتان ترجعان إلى عصر المماليك؛ كما يوجد بالركن الشمالي الشرقي لرواق القبلة قبة ضريحية يرجع تاريخها إلى عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أما صحن الجامع فتتوسطه قبة على 8 أعمدة رخامية، وكانت نوافذ الجامع القديمة مزخرفة بزخارف ما زالت بقاياها موجودة بالجدار الجنوبي.
كما أن للجامع مدخلا رئيسيا بارزًا يقع في الجهة الغربية يتوج واجهات الجامع من الخارج من أعلى شرفات هرمية؛ وللجامع مئذنة أخرى ذات قمة مخروطية تعلو أحد مداخل الواجهة الرئيسية، ولم يقتصر دور الجامع على أداء الفرائض الدينية؛ بل كانت تعقد فيه محكمة لفض المنازعات الدينية والمدنية، وتجمع فيه الأموال لليتامى والفقراء.
الساعة الشمسية
كان هناك عمود يُعرف باسم “الساعة الشمسية” في ساحة الجامع، وهو عمود رخامي أبيض كان يُستخدم قديمًا لتحديد أوقات الصلاة من خلال ظل الشمس، كنوع بدائي من الساعة الشمسية.
كانت هناك نافذة تطل على نهر النيل، إذ كان في الجدار الجنوبي القديم- الذي لا تزال بعض أجزائه قائمة- نوافذ تُمكِّن الداخلين إلى المسجد من رؤية النيل مباشرة من داخله.
شهد مسجد عمرو بن العاص، أقدم مساجد مصر وإفريقيا، أعمال تطوير وترميم شاملة خلال السنوات الأخيرة. في عام 2023، تم الانتهاء من ترميم جميع العناصر الأثرية بالمسجد، بما في ذلك رفع كفاءة شبكات تخفيض منسوب المياه الجوفية وصرف مياه الأمطار، وإنشاء شبكة وقاية من الحريق، وتطوير أنظمة الإضاءة والصوتيات الداخلية والخارجية. كما تمت توسعة المدخل الرئيسي من شارع حسن الأنور ليصبح بعرض 30 مترًا، وإنشاء ساحة خارجية لاستقبال الزائرين.
تم تطوير منطقة الفسطاط المحيطة بالمسجد؛ حيث أُنشئت ساحة جديدة بمساحة 12 ألف متر مربع لخدمة المصلين؛ وذلك ضمن مشروع “حديقة تلال الفسطاط” الذي يُعد الأكبر من نوعه في الشرق الأوسط، ويقام على مساحة 500 فدان في قلب القاهرة.
اهتمام تاريخي
وتهتم مصادر التاريخ الإسلامي بشكل خاص بالتغييرات الأولى التي أجراها مسيلمة بن مخلد الأنصاري بتوجيه من الخليفة معاوية بن أبي سفيان؛ وتروي د. سعاد ماهر محمد في موسوعتها (مساجد مصر وأولياؤها الصالحون)، أنه جاء في كتاب أخبار مسجد أهل الراية أنه: “لما ضاق المسجد بأهله، شكوا ذلك إلى مسلمة بن مخلد، وهو الأمير يومئذ، فكتب إلى معاوية بن أبي سفيان، فكتب إليه يأمره بالزيادة فيه من شرقيه، مما يلي دار عمرو بن العاص، ومن بحريه، ولم يحدث فيه حدثًا من القبلي ولا من الغربي، وجعل له رحبة كان الناس يصيفون فيها”؛ كما يضيف المقريزي، نقلاً عن الكندي: “كما لاطه، أي دهنه بالطلاء، وزخرف جدرانه وسقوفه، ولم يكن المسجد الذي لعمرو فيه نور أو زخرف”؛ كما يقول المقريزي إن: «معاوية أمر بابتناء منار المسجد وأمر أن يؤذنوا في وقت واحد”.
صلى في مسجد عمرو بن العاص عدد من الصحابة الكرام، من بينهم الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، وغيرهم من الفاتحين الذين دخلوا مصر. وقد كان في المسجد منبر تاريخي مميز، إلا أنه تم نقله مع مرور الزمن حفاظًا عليه من التلف والاندثار.
كما كان للمسجد عدة أبواب، لكل منها اسم وقصة، مثل “باب النساء” و”باب القبلة”؛ وكان كل باب يرتبط بحي من أحياء مدينة الفسطاط القديمة، مما يعكس الترابط بين المسجد والمجتمع المحيط به.
مكتبة المسجد
وفي العصور الإسلامية المتقدمة، ضم المسجد مكتبة عظيمة أُسست بداخله، وكانت زاخرة بالمخطوطات في مختلف العلوم، مثل الفقه، واللغة، والطب، والفلك. وقد أصبحت هذه المكتبة مقصدًا للعلماء والدارسين من شتى بقاع العالم الإسلامي.
…………………..
إمام المسجد.. د. يسري عزام:
“درة الجوامع” يشهد تطويرا كبيرا في عهد الرئيس السيسي
إقبال كبير من المصلين في رمضان والأعياد.. وحلقات لتلاوة القرآن
يجلس د. يسري عزام، إمام مسجد عمرو بن العاص، وحوله مجموعة كبيرة من المريدين في حلقات لتلاوة القرآن الكريم؛ ثم في حلقات للإنشاد الديني؛ ثم في دروس يلقيها عليهم؛ مما يُضفي جوا من السعادة والمحبة ويعيد المسجد إلى سابق عصره عندما كان درة المساجد في مصر وإفريقيا؛ حيث كان يقوم مقام الأزهر قبل إنشاء الأزهر؛ كما مقرا للحكم في العصور الإسىلامية المتعددة.. وكان هذا الحوار مع إمام المسجد العتيق د. يسري عزام:
* في البداية نريدك أن تكلمنا عن مسجد عمرو بن العاص بشكل مبسط.. وعن أبرز التجديدات التي حدثت للمسجد؟
– جامع عمرو بن العاص هو أول مسجد جامع في مصر وإفريقيا. عندما جاء سيدنا عمرو بن العاص، رضي الله عنه، لفتح مصر هو ومن معه من الصحابة، مرّوا بالعريش ثم ببلبيس، فبنوا هناك مسجدًا صغيرًا يُعرف باسم “سادات قريش”، ثم قاموا ببناء هذا المسجد سنة 21 هـ؛ وكانت أول خطبة فيه في نفس السنة، أي أن عمر المسجد الآن يقارب 1400 سنة!
والمسجد كان في وقت من الأوقات يُعرف بالأزهر قبل بناء الجامع الأزهر؛ حيث كانت تُدرس فيه المذاهب الأربعة؛ لأنه أقدم من الجامع الأزهر بـ360 سنة.
أئمة المسجد
ومن أبرز الأئمة الذين تولوا الإمامة والخطابة والتدريس في المسجد؟
أبرز الأئمة سيدنا عمرو بن العاص؛ وسيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص؛ والإمام الليث بن سعد؛ والإمام الشافعي؛ والإمام العز بن عبد السلام؛ والإمام ابن حجر العسقلاني؛ والإمام الشاطبي؛ والإمام ابن هشام صاحب “السيرة النبوية”.. ومن العلماء البارزين في العصر الحديث: الشيخ محمد الغزالي؛ والدكتور إسماعيل الدفتار؛ والدكتور عبد الصبور شاهين؛ والشيخ سيد طنطاوي (شيخ الأزهر السابق)؛ وآخرهم الشيخ صادق العدوي.
وماذا عن أهمية الجامع عند قادة مصر والعالم الإسلامي؟
الجامع له مكانة كبيرة عند الأمراء والحكّام؛ حيث كانت تُقام فيه صلاة الجمعة الأخيرة من رمضان بحضور رئيس الدولة أو الوالي أو الحاكم.
تطوير المسجد
وماذا عن أعمال التطوير التي مر بها المسجد؟
– شهد المسجد عدة مراحل من التطوير، كان أبرزها التطوير في عهد الرئيس حسني مبارك؛ ولكن أكبر عملية تطوير وتجديد حدثت في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2022، وتم الانتهاء منها في 1 رمضان 1444هـ (الموافق 2023م)، وهو الوضع الذي عليه الجامع حتى الآن.
* كيف تصف تقسيمات المسجد من الداخل؟
– مكونات المسجد من الداخل: صحن المسجد تبلغ مساحته أكثر من 1200 سنة من التطوير والتوسعة؛ والجزء الخلفي يحتوي على أعمدة؛ بينما الجزء الأمامي مكسوّ بالرخام، والخلفي بالموزايكو؛ وصحن المسجد كان مزروعًا فيه النخيل في السابق؛ والمسجد من الداخل طوله 120 مترًا، وعرضه 118 مترًا، أي بمساحة داخلية تقارب 14,000 متر مربع؛ وصحن المسجد وحده تبلغ مساحته 3,500 متر مربع، ما يجعله أكبر من أي مسجد آخر في مصر.. وفي التجديدات الأخيرة، أُضيفت حديقة مفتوحة لرواد المسجد على الجانب المقابل، بمساحة حوالي 10,000 متر مربع؛ حاليًا، تصل مساحة المسجد الكلية (بما فيها المساحات الخارجية) إلى 38,000 متر مربع، وهذا يُعد من أكبر التطويرات التي شهدها الجامع.
المعالم الأثرية
وماذا عن أبرز المعالم الأثرية التي يضمها المسجد؟
يشهد جامع عمرو بن العاص في رمضان والأعياد أعدادًا كبيرة من المصلين، تصل إلى نصف مليون مصلي؛ ويُقام فيه تحفيظ القرآن وتدريس علوم الشريعة؛ وتُقام دروس علم يوميًّا للرجال والنساء؛ ويزور المسجد أساتذة من الجامعات، لما له من مكانة علمية وتاريخية عظيمة.. وبالنسبة لمكتبة جامع عمرو بن العاص: كان يُقال إنها تحتوي على كتب قيمة جدًّا؛ ولكن الدكتور يسري عزام صرّح خلال الحوار أن مكتبة الجامع اندثرت، ولم تعد موجودة حاليًا نتيجة للتطورات التي طرأت على المسجد في الفترات الأخيرة.
68